فصل: باب من الفداء فيما يصلح وفيما لا يصلح

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **


  باب من الفداء فيما يصلح وفيما لا يصلح

المشتري للعبد المأسور من العدو إذا أخرجه فحضر مولاه فإن كان اشتراه بشيء له مثل من جنسه فللمولى أن يأخذه بمثله وإن كان اشتراه بما ليس من ذوات الأمثال كالثياب والأمتع فللمولى أن يأخذه بقيمته لأن المولى إنما يعطي المشتري ما غرم فيه ليندفع به الضرر والخسران عنه وتمام ذلك بالمثل صورة ومعنى فيجب مراعاة ذلك إلا إذا تعذر اعتبار المماثلة صورة فحينئذ تعتبر المماثلة في معنى المالية كما في بدل المغصوب والمستهلك‏.‏

يوضحه‏:‏ أن المولى حين رغب في أخذه فقد أجاز ما صنعه المشتري وإجازته في الانتهاء بمنزلة الإذن له في الابتداء أن يفديه بمال نفسه ولو أذن له في الابتداء كان الحكم فيه ما ذكرنا لمعنى وهو أن ذوات الأمثال كالمكيل والموزون مما يجوز استقراضه فالمولى صار كالمستقرض منه فلهذا يغرم مثله وأما الثياب والأمتعة لا يجوز فيها الاستقراض وهي تكون مضمونة بالقيمة بحكم الاستقراض الفاسد‏.‏

فإن اختلفا في مقدار قيمته فالقول قو الذي فداه به مع يمينه لأن المولى يدعي عليه ثبوت حق الأخذ له عند أداء الأقل وهو ينكر ذلك ما لم يؤد الأكثر الذي دعاه والقول قول المنكر مع يمينه ولأن ما فداه به ملكه وقد كان في يده إلى أن دفعه إلى الحربي فيكون هو أعرف بقيمته من المولى القديم لأنه لم يصل ذلك إلى يده قط فالظاهر أنه محازف فيما يدعي من قيمته‏.‏

وكذلك إن كان الذي فداه به مكيلاً أو موزوناً فاختلفا في وزنه أو جودته فالقول قول الذي فداه مع يمينه للمعنيين اللذين ذكرناهما‏.‏

وعلى المولى البينة لأنه يدعي ثبوت حق أخذ ملكه بمقدار ما أقر به والآخر ينكر ولو أنكر ثبوت الحق له أصلاً كان عليه أن يثبت بالبينة فكذلك إذا أنكر ثبوت الحق له عند إحضار أقل المالين فإن أقام بينة مسلمين أو ذميين والمشتري من العدو ذمي فقد أثبت دعواه بما هو حجة على خصمه والبينة العادلة أحق بالعمل بها من اليمين الفاجرة‏.‏

وإن كان الذي فداه من أهل الحرب حربياً كان أو مستأمناً فينا ثم أخرجه بأمان فليس لمولاه أن يأخذه منه لأن المشتري في ملكه قائم مقام البائع والبائع وهو الذي أخرجه لو خرج إلينا بأمان ومعه ذلك العبد لم يكن لمولاه أن يأخذه منه فكذلك المشتري وهذا لأن ثبوت حق الأخذ له باعتبار أنه صار مظلوماً وأن على المشتري القيام بنصرته وهذا لا يوجد فيما إذا كان الذي أخرجه حربياً مستأمناً لأنه ليس من أهل دارنا ولا يلزمه نصرة من هو من أهل دارنا‏.‏

بخلاف الذمي ولكنه يجبر على بيعه لأن هذا العبد كان من أهل دارنا فلا يترك الحربي ليرجع به إلى دار الحرب‏.‏

وإن كان العبد مسلماً فهو غير مشكل لأنه لو كان عبداً من الأصل فأسلم أجبر على بيعه فها هنا أولى أن يجبر على بيعه‏.‏

وإن كان هذا الحربي الذي اشتراه خرج مسلماً أو ذمياً ومعه العبد لم يكن لمولاه عليه سبيل بمنزلة ما لو خرج البائع مسلماً أو ذمياً والأصل فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أسلم على مال فهو له‏.‏

إلا أنه إذا كان خرج ذمياً والعبد مسلم فإنه يجبر على بيعه من المسلمين لأنه لا يترك عبد مسلم في يد كافر يستعبده لما فيه من الإذلال بالمسلم‏.‏

وإن كان المأسور ممن لا يحتمل التملك أو النقل من ملك إلى ملك كالحر والمدبر والمكاتب وأم الولد فهو مردود على ما كان عليه سواء أسلموا أو صاروا ذمة أو خرجوا إلينا بأمان لأن هذا مما لا يجري عليه السبي ولا يكون محرزاً أبداً فإذا لم يكن ملكاً لهم قبل الإسلام لا يكون ملكاً لهم بالإسلام أيضاً ولكن عليهم إزالة يد الظلم عنه فإن اختلف المولى القديم مع المشتري من العدو في المال الذي فداه به في جنسه أو مقداره فالقول قول الذي فداه به لما بينا فإن أقام المولى البينة أخذ ببينته لأنه نور دعواه بالحجة وهو في الظاهر مدع للزيادة وإن كان في المعنى منكراً كما بينا ولكن الدعوى ظاهراً تكفي لقبول البينة كالمودع يدعي رد الوديعة ويقيم البينة على ذلك وإن أقاما جميعاً البينة‏.‏

فالبينة بينة المولي القديم وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رضي الله تعالى عنهما وأما عند أبي يوسف رضي الله عنه البينة بينة المشتري من العدو إلا أنه لم يذكر قول أبي يوسف رحمه الله ها هنا لما كان بينهما حين صنف الكتاب وأصل هذه المسألة في الشفيع والمشتري إذا اختلفا في الثمن وأقاما البينة فإن البينة بينة الشفيع في قول أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما فكذلك ها هنا المولى القديم بمنزلة الشفيع وعند أبي يوسف رحمه الله هناك البينة بينة المشتري لأنه يثبت الزيادة ببينة فها هنا كذلك‏.‏

ولو اتفقا على أنه فداه بثياب معلومة واختلفا في قيمتها وأقام كل واحد منهما البينة فالبينة ها هنا بينة المشتري من العدو بالاتفاق وكذلك في الشفعة إذا اختلفا في مقدار قيمة لعبد المشتري به بالدار وأقاما البينة فإن البينة بينة المشتري أما عند أبي يوسف رحمه الله فلا إشكال فيه لأنه يثبت الزيادة في الفصلين وأما عند أبي حنيفة ومحمد رضي الله تعالى عنهما فوجه الفرق أن في الفصل الأول المشتري ببينته يثبت فعل نفسه والمولى القديم ببينته يثبت فعل المشتري وإنما يثبت فعل المرء عليه بالبينة لا أن يثبت هو فعل نفسه بالبينة وهذا التعليل نظير ما قال في مسألة الشفعة إنه صدر من المشتري إقراران وللشفيع أن يأخذ بما عليه وهذا المعنى لا يوجد فيما إذا اختلفا في القيمة لأنه لا خلاف بينهما في أصل الفعل وهو الفداء من المشتري بما فداه به من الثياب وإنما الخلاف في مقدار القيمة فالمثبت للزيادة من البينتين فيه أولى‏.‏

ولو أن المشتري من العدو كان اشتراه بما لا يحل من خمر أو خنزير أو ميتة فإن كان المشتري مسلماً فللمولى القديم أن يأخذه بقيمته لأن ما جرى بينهما لم يكن شراء وإنما كان أخذ مال الكافر بطيبة نفسه فكأنه وهبه له‏.‏

وإن كان المشتري ذمياً فإن اشتراه بميتة فكذلك الجواب لأن الميتة ليست بمال في حقهم كما في حقنا فما جرى بينهما لم يكن شراء لأن الشراء اسم لمبادلة مال بمال‏.‏

وإن كان اشتراه بخمر أو خنزير فما جرى بينهما كان شراء على حقيقته لأن الخمر والخنزير مال متقوم في حقهم‏.‏

ثم إن كان المولى القديم ذمياً أخذه في الخمر بالمثل وفي الخنزير بالقيمة‏.‏

وإن كان مسلماً أخذه فيهما بالقيمة لما بينا أن المسلم ممنوع من تمليك الخمر وعند العجز عن تسليم الخمر مع وجود السبب الموجب للتسليم يجب عليه قيمته‏.‏

ولو كان العبد قبل الأسر بين نصراني ومسلم ثم اشتراه ذمي من العدو بالخمر فإن النصراني يأخذ نصفه بمثل نصف ذلك الخمر والمسلم يأخذ نصفه بنصف قيمة الخمر اعتباراً للبعض بالكل وهذا لأن النصراني قادر على أداء المثل في نصيبه والمسلم عاجز عن ذلك وإن كان الذي اشتراه من العدو مسلماً أخذه الموليان بقيمته لأن الذي جرى من المسلم لم يكن شراء إذ الخمر ليس بمال متقوم في حق المسلم وإن كان اشتراه من العدو مسلم ونصراني فإن كان المولى القديم مسلماً أخذ نصفه من المسلم المشتري بنصف قيمته لأن الذي كان منه في نصيبه بمنزلة الإنهاب دون الشراء‏.‏

وأخذ نصفه من النصراني بنصف قيمة الخمر لأن الذي كان منه في نصيبه حقيقة الشراء فالخمر مال في حقه وإن كان مولاه نصرانياً أخذ من المسلم النصف بقيمته لما بينا ومن النصراني النصف بما أدى من الخمر فيه لأنه قادر على أداء المثل له‏.‏

وإن كان للعبد في الأصل موليان مسلم ونصراني ثم اشتراه من العدو بالخمر مسلم ونصراني أيضاً فإن النصف الذي اشتراه المسلم يأخذه الموليان بنصف قيمة العبد لأنه لا يملكه بالشراء حقيقة والنصف الذي اشتراه النصراني فالمولى المسلم يأخذ ذلك النصف بنصف قيمة ما أدى من الخمر والنصراني يأخذ بالمثل لأن كل نصف في هذا الموضع بمنزلة عبد كامل وحكم الجزء معتبر بحكم الكل في الوجهين‏.‏

فإن كانا اشترياه بخنازير فإنهما يأخذان النصف من المشتري المسلم بنصف قيمة العبد لأنه ما أخذه بالشراء حقيقة بل ذلك في حقه بمنزلة الهبة‏.‏

والنصف الآخر يأخذانه من النصراني بنصف قيمة الخنازير لأنه تملك ذلك النصف بالشراء حقيقة والخنزير ليس من ذوات الأمثال في حق أحد‏.‏

وإن أراد أحد الموليين أخذ حصته من العبد دون الآخر فله أن يأخذه على الوجه الذي قلنا لأن حق كل واحد منهما في الأخذ ثابت في النصف باعتبار قديم ملكه فإن أبطل أحدهما حقه لا يتعذر على الآخر استيفاء حقه لأن إبطاله غير عامل في حق صاحبه والله الموفق‏.‏

  باب من الفداء الذي يرجع إلى أهله إذا ظهر عليه المسلمون والذي لا يرجع

ولو أن المشركين استولوا على متاع المسلمين فأحرزوه بعسكرهم في دار الإسلام ثم قاتلهم جيش من المسلمين حتى استنقذوه منهم قبل أن يحرزوه بدارهم فذلك مردود على صاحبه لأنهم بمنزلة الغاصبين لم يملكوه قبل الإحراز فمن وصل إلى يده كان عليه رده إلى مالكه لأن مال المسلم لا يكون غنيمة للمسلمين‏.‏

فإذا لم يعلم الإمام بذلك حتى قسمه بين من أصابه فقسمته باطلة والمتاع مردود على أهله لأنه تبين أن القسمة لم تصادف محلها فإن هذه القسمة تتضمن التمليك من الإمام لكل واحد منهم ما يصيبه وليس له ولاية التمليك في مال المسلمين من غير رضى صاحبه‏.‏

وكذلك إن أسلم عليه أهل الحرب أو صاروا ذمة لأنهم غاصبون فيتأكد عليهم وجوب الرد بإسلامهم‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ على اليد ما أخذت حتى ترد فإن علم الإمام الحال ورأى أن إحرازهم بالعسكر يكون تاماً فخمسه وقسمه مع غنائم المشركين بين من أصابه من المسلمين ثم رفع ذلك إلى قاض يرى ذلك غير إحراز جاز ما صنع الأول ولم يبطله لأنه أمضى فصلاً مختلفاً فيه باجتهاده‏.‏

وكذلك لو أسلموا أو صاروا ذمة فقضى بأن ذلك سالم لهم بالاجتهاد نفذ قضاؤه فإن قيل‏:‏ هذا قضاء بخلاف الإجماع لأن العلماء في هذه المسألة على قولين‏:‏ منهم من يقول‏:‏ لا يملكونه وإن أحرزوه بدارهم ومنهم من يقول يملكونه بعد الإحراز وأحد لا يقول يملكونه قبل الإحراز بدارهم قلنا الخلاف بين العلماء في الفصلين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن أموال المسلمين هل تكون محلاً للتمليك بالقهر بعد الإحراز بالدار أم لا والآخر‏:‏ أن الإحراز فيما هو محل للتمليك بالقهر هل يتم باليد قبل الإحراز بالدار أم لا فإذا اجتهد القاضي واستقر رأيه على أن مال المسلم محل التملك بالقهر وأن القهر يتم بالإحراز بالعسكر بدون الإحراز بالدار وأمضى الحكم كان ذلك منه اجتهاداً في موضعه فيكون قضاؤه نافذاً بمنزلة ما لو قضى بشهادة الفساق أو على الغائب أو بشهادة رجل وامرأتين بالنكاح على غائب فإنه ينفذ قضاؤه وإن كان من يجوز القضاء على الغائب يقول‏:‏ ليس للفساق شهادة ولا للنساء مع الرجال شهادة في النكاح ولكن قيل‏:‏ كل واحد من الفصلين مجتهد فيه فينفذ القضاء من القاضي باجتهاده فيهما وهذا لأن المجتهد يتبع الدليل لا القائل به وهذا بخلاف ما سبق لأن هناك القاضي ما قضى بالقسمة عن اجتهاده وإنما قضى بذلك لعدم علمه بأن هذا المال مصاب من المسلمين إذا صار ذلك معلوماً له كان قضاؤه باطلاً وهو بمنزلة المتحري في باب القبلة إذا تبين خطأه بعد الفراغ من الصلاة‏.‏

لا يلزمه الإعادة والذي لم يجتهد ولم يشتبه عليه ولكنه صلى إلى جهته ثم تبين أنه أخطأ يلزمه الإعادة وهذا لأن مطلق الفعل يكون محمولاً على الصواب ما لم يتبين فيه الخطأ وما يفعل عن اجتهاد ونظر يكون محمولاً على الصواب ما أمكن والإمكان قائم إذا صادف قضاؤه محلاً مجتهداً فيه‏.‏

ألا ترى أن من مات وله رقيق وعليه دين كثير فباع القاضي رقيقه وقضى دينه ثم قامت البينة لبعضهم أن مولاه كان دبره فإن بيع القاضي فيه يكون باطلا ولو كان القاضي عالماً بتدبيره فاجتهد وأبطل تدبيره لأنه وصيه وباعه في الدين ثم ولي قاض آخر يرى ذلك خطأ فإنه ينفذ قضاء الأول لهذا المعنى وإن كان القاضي الثاني لا يعلم أن الأول فعله عن اجتهاد أو لأنه لم يقف على حقيقة الحال فإنه ينفذ قضاؤه أيضاً لما بينا‏:‏ أن قضاء القاضي كان محمولاً على الصحة ما أمكن ولأن تحسين الظن بالقاضي واجب قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏}‏ وأحسن الوجهين أن يحمل على أنه قضى بعد العلم عن اجتهاد فلذا نفذ قضاؤه حتى يعلم خلاف ذلك‏.‏

ولو أن تاجراً من المسلمين دخل عسكرهم في دارنا وفدى ما أصابوه من المسلمين بما لو أخرجه فعليه رده علي صاحبه وهو متبرع في الفداء الذي أدى بغير أمر صاحبه فإن ظهر المسلمون عليهم قبل أن يدخلوا دارهم وأصابوا ذلك الفداء بعينه فلا سبيل للتاجر عليه سواء وجده قبل القسمة أو بعدها لأن المشركين ملكوا ذلك بالأخذ ملكاً تاماً حتى لو أسلموا أو صاروا ذمة كان سالماً لهم وهذا لأنهم ما ملكوا هذا المال بطريق القهر حتى يشترط فيه الإحراز بالدار ولكن بتمليك صاحب المال إياهم ذلك طوعاً فيكون ذلك بمنزلة ما يشترونه من تجار المسلمين‏.‏

فيملكونه بنفس الشراء على وجه لا يبقى لصاحبه فيه حق بعد التسليم وليس في هذا أكثر من أن ما أعطوا بمقابلته كان مستحقاً لمسلم ولكن بدل المستحق مملوك إذا جرى السبب بين المسلمين واتصل به القبض فإذا جرى بين المسلمين وبين أهل الحرب أولى ولأنه لما أعطاهم بطيبة نفسه يجعل في حكم السلامة لهم بمنزلة ما لو وهبه منهم‏.‏

ألا ترى أنهم لو قتلوا مسلماً وأخذوا جيفته فدخل عليهم قوم من أهل بيته وأعطوهم جعلاً ليأخذوه فيدفنوه كان ذلك سالماً لهم إن أسلموا أو صاروا ذمة وكان غنيمة سالمة للمسلمين إن ظفروا به قبل أن يحرزوه بدارهم فهذا مثله قال‏.‏

ألا ترى أنهم لو أسروا أحراراً من المسلمين أو من أهل الذمة فأدخلوهم دارهم ثم جاءهم أهل الأسارى فافتدوهم بمال فإن ذلك المال يكون سالماً لهم إذا أسلموا أو صاروا ذمة ويكون غنيمة سالمة للمسلمين إذا ظهروا عليه ولا معنى لقول من يقول‏:‏ إنهم ها هنا أحرزوا المال بدارهم‏.‏

لأنه لو كان المعنى هذا لوجب أن يقال‏:‏ إذا وقع في الغنيمة فوجده صاحبه قبل القسمة أن يكون له حق الأخذ بغير شيء كما في المال الذي أخذوه قهراً وأحرزوه‏.‏

فإن قال هذا القائل‏:‏ فأنا هكذا أقول قلنا‏:‏ هو بعيد فإن قوماً من المسلمين لو خافوا أهل الحرب أن يستأصلوهم فصالحوهم على ألا يغزوهم سنة على أن يؤدي إليهم المسلمون في تلك السنة ألف ثوب هروي وقبضوها وانقضت السنة ثم إن المسلمين ظفروا بهم وغنموا تلك الثياب بأعيانها فإنها تكون غنيمة لمن أخذها سالمة لهم قبل القسمة وبعد القسمة لأنهم أخذوا ذلك بطيبة أنفس أهلها وإنما الذي يرد على صاحبه قبل القسمة ما أخذ بطريق القهر‏.‏

وكذلك لو كان هذا الصلح بين أهل المدينة من المسلمين وبين عسكر المشركين في دار الإسلام ثم جاء مدد للمسلمين فاستنقذوا المال من المشركين قبل أن يحرزوه بدارهم كان ذلك غنيمة لمن أصابه باعتبار المعنى الذي قلنا‏.‏

فعرفنا أن فيما يكون مأخوذا بطيب نفس صاحبه دار الإسلام ودار الحرب سواء وإنما جاز للمسلمين هذا النوع من الصلح لأنهم يخافون الاستئصال والإهلاك على النفوس والذراري فيجعلون الأموال فداء لذلك وصاحب الشرع ندب إلى ذلك فقال عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه‏:‏ اجعل مالك دون نفسك وقد هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حين أحس الضعف ببعض المسلمين يوم الخندق فلما أحس بهم القوة كما قاله السعدان رضي الله عنهما امتنع منه فصار ذلك اصلاً في الجواز عند الخوف على ذراري المسلمين‏.‏

ولو أنهم أسروا مسلماً فافتدى منهم بسلاحه أو بفرسه وخلوا سبيله ثم ظفر المسلمون بعين ذلك المال فإن كان المشركون لم يحرزوه فهو مردود على الأسير قبل القسمة وبعدها مجاناً وإن كانوا أحرزوه فهو مردود على صاحبه قبل القسمة بغير شيء وبعدها بالقيمة إن أحب لأن المشركين أصابوا هذا المال بطريق القهر فإن يدهم الثابتة على الأسير تكون ثابتة على المال الذي مع الأسير فيثبت فيه حكم المصاب بالاستيلاء مقصوداً بخلاف ما سبق فيدهم على الفداء هناك ما ثبتت إلا بطيب نفس صاحب المال وإن كان الإمام حين وقع هذا المال في الغنيمة باعه ولم يكن المشركون أحرزوه فبيعه باطل وهو مردود على صاحبه إلا أن يعلم أنه باعه حفظاً على صاحبه لأنه خاف عليه الضيعة ولا يدري متى يجيء صاحبه من المسلمين فحينئذ يكون بيعه نافذاً بمنزلة القاضي يبيع اللقطة ثم يأتي صاحبها‏.‏

وإن لم يعلم أنه على أي طريق باعه فإن بيعه يكون مردوداً لأن البناء على الظاهر واجب لتعذر الوقوف علي حقيقة الحال والظاهر أنه باعه على أنه من الغنيمة فيحمل على ذلك الوجه حتى يعلم غير ذلك وقد كان قال قبل هذا في بيع المدبر في الدين بعد موت مولاه‏:‏ إذا لم يعلم كيف باعه فإنه يكون بيعه جائزاً بناء على أنه فعل ذلك عن علم حتى يعلم خلافه فمن أصحابنا من يقول‏:‏ لا فرق بينهما وينبغي أن يكون في الفصلين روايتان ومنهم من فرق فقال‏:‏ ها هنا بيع المال للحفظ على الغائب لا يكون مستحقاً على القاضي ولكنه يكون بالخيار إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله فأما بيع التركة بالدين مستحق على القاضي إذا طلب صاحب الدين فلهذا حملنا هناك مطلق بيعه على الوجه المستحق وهو أن يكون بعد إبطال التدبير عن اجتهاد إذ المعارضة لا تقع بين المستحق وغير المستحق وها هنا استوى الجانبان فحملنا مطلق بيعه على ما هو الظاهر‏.‏

فإن كان الأسير بعث إلى بعض أهله فسأله أن يفديه بمال من أهل الحرب بمال نفسه أو من مال الأسير فدخل إليهم المأمور بأمان ففعل ذلك ثم ظهر المسلمون على المال فهو فيء ولا سبيل لصاحبه عليه لأن المال ما وصل إلى يدهم بطريق القهر ها هنا بل بتسليم صاحبه إليهم طوعاً‏.‏

وكذلك لو كانوا قالوا له‏:‏ لنقتلنك أو لتفدين نفسك لأنه كان متمكناً من ألا يدفع المال إليهم حين لم يكن المال معه فعرفنا أنهم ما أثبتوا اليد على المال قهراً بخلاف ما إذا كان المال معه حين أسروه فإنه غير متمكن من دفع يدهم عن ذلك المال ألا ترى أن هناك لو صير حتى قتلوه كانت يدهم ثابتة على هذا المال وها هنا لو فعل ذلك لم تثبت يدهم على شيء من ماله في دار الإسلام ولا على شيء من مال المأمور الذي أمره بأن يفديه من ماله أرأيت لو رد هذا الفداء بعدما وقع في الغنيمة أكان يرد على من أدى أو على من أمر به وهو الأسير وكل واحد منهما بعيد من الفقه ولو وقع مسلم في صف المشركين وكان يقاتلهم ثم صالحهم وهو ممتنع منهم على أن يسلم لهم سلاحه وفرسه ويؤمنوه ففعلوا ذلك ثم إن المسلمين أصابوا ذلك المال فهو فيء‏.‏

لأن يدهم عليه ما ثبتت إلا بإعطاء الرجل ذلك إليهم فإنه أعطي وهو مقاتل ممتنع منهم وفي تلك الحالة لم تكن يدهم ثابتة على نفسه فكذلك على ما معه من المال بخلاف ما بعد الأسر‏.‏

ولو حاصر المشركون مدينة من مدائن المسلمين فصالحوهم على أن يكفوا عنهم أياماً مسماة على أن يعطوهم رقيقاً من أهل الحرب مسمين كانوا أسروهم منهم وأولئك الرقيق عبيد لأناس من أهل الذمة فطابت أنفس مواليهم بتسليمهم إليهم ثم بعد مضي المدة أتى المسلمين مدد فقاتلوهم وظهروا على أولئك الرقيق فهم فيء لأن الموالي أعطاهم المشركون بطيبة أنفسهم ولو كان والي المدينة أخذ أولئك الرقيق بغير طيب أنفسهم فدفعهم إلى أهل الحرب والمسألة بحالها فإن ظفر بهم المسلمون قبل أن يحرزوهم بدارهم ردوا على مواليهم قبل القسمة وبعدها بغير شيء وإن كان بعد الإحراز ردوا على مواليهم قبل القسمة بغير شيء وبعدها بالقيمة إن أحبوا لأنهم أخذوا من الموالي بغير طيب أنفسهم فلا فرق بين أن يكون الآخذ أمير المسلمين فيدفعه إلى أهل الحرب وبين أن يكون الآخذ أهل الحرب بطريق القهر‏.‏

فإن أبوا أخذهم بعد القسمة بالقيمة كان لهم أن يضمنوا الأمير قيمتهم لأنه غصبهم من الموالي والمغصوب مضمون على الغاصب بالقيمة ما لم يعد به إلى يد مولاه وإذا ضمن قيمتهم فقد ملكهم بالضمان فيكون حكمهم كحكم ما لو كانوا ملكاً له فأخذه المشركون بغير رضاه حتى يكون له أن يأخذهم بالقيمة ولا يقال‏:‏ هو قد سلمهم طوعاً فينبغي ألا يكون له حق الأخذ بعد ذلك من الغنيمة وهذا لأنه سلمهم طوعاً على أن يتملكوا على الموالي لا عليه فبعد ما استقر الملك له لا يمكن اعتبار الرضى والطواعية منه فكان هذا بمنزلة المأخوذ منه قهراً والله تعالى الموفق والمعين‏.‏